الخشية سمة الغالبية من الراحلين و صفة القلائل من الحاضرين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أخواني في الله
سؤال يدور في أذهاننا دائماً لما صفة الخشية قد قلت بيننا و لعلي أقصد هنا خشية الله القدير , خشية الموت المرير , خشية الحساب العسير و خشية اليوم الأخير
لما لم يعد ذكر قدرة الله و إعجازه و تعديد نعمه لا يؤثر في أغلب القلوب … أهو التعود على ذلك أم عدم المبالاة أم ماذا
بل إن الكثير من الشاكرين أصبح شكر الله عادة يؤدونها ….تردد ألسنتهم كلمات الشكر و الحمد بينما القلوب تكاد تكون ماتت
و لكن الأمر أن هناك من لا يشكر أصلاً
و هناك من كفر بوجود هذا الخالق و أنكروا وجوده و ظلوا يخوضون في نظريات اعتبروها علمية لتوضيح كيف بدأ الكون و هل هو بدأ من العدم ؟؟؟
و لما ذكر الموت أصبح كذكر الحياة … الناس لم تعد تفرق بينهم
و لقد آمنوا بوجود الحياة الأخرى و بدلاً أن يخوفهم هذا و يجعلهم يعملون انقلبت الآية
لا يحس الناس مرارة الموت و عظمه و صعوبته إلا بعد فقد أحد أحبتهم …. نشعر حينها و حينها فقط بصعوبة هذا الموقف
أما عن الحساب … فهو أيضاً مستهان به … و أذكر يوماً أن أحدهم كان قد أعطانا موعظة في هذا الحساب و بكل براءة أو (إجرام) قامت إحدى من أعرفهن بسؤال الواعظ و قالت " أو ليس المسلمون و حتى من فعل منهم السيئات و بقى وقتاً في النار يخرج منها و يدخلون جميعاً الجنة لأنهم آمنوا بالله و بأن محمداً رسول الله"
لماذا ألم تعد هناك خشية من هذا الحساب و من هذا العذاب… أسنصل للدرجة التي وصلت لها يهود حين قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة
دعوني أستعرض معكم بعض أمثلة لخشية السابقين حتى ندرك مدى تقصيرنا
يقول الأصمعي (رضي الله عنه) : سمعت شاباً يقول هذه الأبيات :-
ألا أيها المقصود في كل وجهــة
شكوت إليك الضر فارحم شاكيتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي
فهب لي ذنوبي كلها و اقض حاجتي
أتيت بأعمال قباح رديئــــة
و ما في الورى عبد جنى كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنــــى
فأين رجائي ثم أين مخافــــتي
ثم سقط مغشياً عليه فدنوت منه فإذا هو زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين فرفعت رأسه في حجري و بكيت فقطرت دمعة على خده فقال من هذا الذي يهجم علينا .. فقلت عبدك الأصمعي سيدي.. ما هذا البكاء و أنت من أهل بيت الحبيب صلوات الله عليه و سلامه .. و الله تعالى يقول " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً " ..فقال : هيهات هيهات.. إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه و لو كان عبداً حبشياً .. و خلق النار لمن عصاه لو كان حراً قرشياً .. ثم قال : أليس الله تعالى يقول " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون* فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون"
ثم قال : أليس الرسول (صلى الله عليه و سلم) هو القائل " إني لأخوفكم من الله و أشدكم له خشية " ثم قال و هو يبكي : أنسيت يا هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لابنته فاطمة رضي الله عنه : " اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً"
رحم الله هذا الخاشع الزاهد
لقد كانت خشية الله شغله الشاغل
و نحن أننا نعلم ما يعلمه و ندركه جيداً فالأغلبية منا قلبها لا يكلف نفسه حتى الوقوف و تدبر ما نملك
و هذا عمر بن الخطاب الفاروق العادل رضي الله عنه كان يخاف من لقاء الله تعالى خوفاً لو جُمع خوفنا كله في كفه و خوفه في الكفة الأخرى لرجحت كفته … و كلنا يعلم مواقف هذا العظيم في الخشية و التذلل
و يكفينا دليلاً على زهده أن نعلم أنه من دائم البكاء لدرجة أنك كنت ترى على وجهه خطين أسودين من كثرة انحدار الدموع..
و تكفي كلماته " ليت أمي لم تلدني " " ليتني شعرة في صدر أبي بكر"
و هذا حفيده عمر بن عبد العزيز و قد جاءته مولاة تقص عليه رؤية رأتها فتقول أنها رأت في المنام كأن الصراط قد مد على جهنم و هي تزفر على أهلها و ذكرت أنها رأت رجالاً مروا على الصراط فأخذتهم النار ثم قالت و رأيتك يا أمير المؤمنين و قد جئ بك …
فوقع العظيم مغشياً عليه و بقي زماناً يضطرب و هي تصيح في أذنه : رأيتك و الله و قد نجوت
ما هذه الخشية ؟؟!! لقد أغشي عليه لمجرد سماعه أنه جئ به أمام الصراط
رحم الله هذا الرجل و أسكنه فسيح جناته و أمنه الله مما كان يخشى
و يقول منصور بن عمار رضي الله عنه : دخلت الكوفة فبينما أمشي في ظلمة الليل إذ سمعت بكاء رجل بصوت شجي من داخل دار و هو يقول : إلهي .. و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك و لكن عصيتك بجهل فالآن من ينقذني من عذابك؟ و بحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واذنوباه.. واغوثاه.. يا الله
فقال منصور بن عمار : فأبكاني كلامه فوقفت فقرأت " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم النار و الحجارة يقودها النار و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يأمرون" فسمعت للرجل اضطرباً شديداً و صياحاً .. فوقفت حتى انقطع صوته و مضيت .. فلما أصبحت أتيت إلى دار الرجل فوجدته قد مات و الناس في تجهيزه و عجوز تبكي
فسألتها عنها فقيل لي أمه … فتقدمت إليها و سألتها عن حاله فقالت : كان يصوم النهار و يقوم الليل و يكتسب الحلال فيقسم كسبه ثلاثاً ثلث لنفقته و ثلث لنفقتي و ثلث يتصدق به .. فلما كان البارحة مر إنسان و هو يقرأ فسمع آية من القرآن ففارق الدنيا
رحمه الله و أسكنه الفردوس الأعلى
كل ما أرجوه أن نملك و لو عُشر تلك الخشية
نحاول أن نؤدي حق الله علينا و رغم ما سنفعله لن نستطيع أن نؤدي حقه أبداً لكن علينا التذكر ما لربنا من فضل علينا
و كان يزيد الرقاشي رحمه الله يعاتب نفسه و يقول لها :
ويحك يا نفس .. ما الذي يصلي عنك بعد الموت.. و هكذا ثم يقول : أيها الناس ألا تبكون و تنتحبون على أنفسكم بقية عمركم .. فمن كان الموت موعده و القبر بيته .. و الثرى فراشه و الدود مؤنسه و خوف الفزع الأكبر يزعجه كيف يلتذ بمنام
ثم يخر مغشياً عليه
أين نحن من تلك المخافة و هذا الخوف الشديد
ليساعدنا الله و ليرحمنا و ليتجاوز عن سيئاتنا
و لقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه إذا ذكر الموت لا ينتفع أحد به أياماً عديدة و لا يأكل و لا يشرب و كان إذا سئل عن شئ يقول لا أدري
كل هذا لأنه تذكر الموت
و قد كان علي بن الفضيل بن عياض إذا ذكر الموت تكاد تنقطع مفاصله من الاضطراب
و كان يوسف بن أسباط إذا شيع جنازة يكاد يموت فيرجعون به في النعش إلى داره
فلنتذكر دائماً تلك الأمثال و لنتعظ بها